مساهمة أميركا المميزة في الفلسفة يطلق عليها البراجماتية. ومثل كل الأفكار التي نضجت عبر أجيال من الفلاسفة الأكاديميين، فقد اختُبرت هذه الحركة وقتلت بحثاً. وفي البداية، في نهاية القرن التاسع عشر، وبداية القرن العشرين، كانت البراجماتية رد فعل من أشخاص مثل سي. إس. بيرس ووليام جيمس وجون ديوي على الفلسفات المثالية لأوروبا. فالحقيقة لا توجد في مكان ما في العقل بعيداً عن العالم، لكن صحة الفكرة تقاس بتأثيرها.
فكل الفلسفات الصحيحة والعظيمة تبدو ذاتية الوضوح بعد ما يكفي من الخبرة. والبراجماتية تقدمت إلى حد كبير لأن بديلها، وهو المثالية التحليلية، مثلت فشلاً عملياً واضحاً. فعلى مدار القرن الماضي، اشتهرت النظريات الكبيرة عن التفوق العرقي والمصير القومي واليوتوبيا الشيوعية بتأثيراتها المروعة على الحياة الواقعية. وحتى الفكرة الأكثر حداثة أن العالم برمته متعطش للديمقراطية الأميركية قد اصطدمت بواقع الحياة.
معظم الأميركيين ليسوا فلاسفة، والحمد لله، لكننا بلد البراجماتيين. فقد خرجت السيناتورة إليزابيث وارين عن التيار العام، حين تحاشت النقد أثناء الجولة الثانية من المناظرات «الديمقراطية» بالقول: «لا أفهم سبب أن يمر أي شخص بكل مشكلات خوض السباق على منصب رئيس الولايات المتحدة، ليتحدث فحسب عما لا يمكننا القيام به فعلاً وما يجب ألا نقاتل من أجله».
بل ينبغي على الرئيس الأميركي أن يهتم بشدة بتأثير أفكاره فيما إذا كان يستطيع فعلاً تنفيذ ما وعد به، وإذا ما كانت مثاليته الخاصة «بما يجب فعله» تمثل أيضاً براجماتية «ما يمكن فعله». وكان «جون ديلاني» عضو الكونجرس خارج نطاق المكان في منتدى عن الرؤساء المحتملين، حين عبر عن قلقه العملي بأن المستشفيات لا يمكن أن تستمر إذا تم تمويل خدماتها بمعدلات برنامج الرعاية الصحية ميديكير كما تقترح وارين.
والبحث عن دليل على هذه الأسئلة قد يتضمن نظرة إلى كندا وبرنامج الرعاية الصحية المفضل للسيناتور بيرني ساندرز. فالمستشفيات في كندا مصابة بقلة تمويل مزمنة في ظل إدارة الحكومة ونظام الدفع من طرف واحد. فقد ذكر متحدث باسم مستشفى للأطفال المرضى «لا يمكن أن تكون مسؤولة عن الكلفة الكاملة على مدار المعالجة لطفل يمر بمرض معقد».
السؤال عما يجدي نفعاً يمثل عنصراً ضروريا للتقليد التقدمي. والإصلاحيون في بداية القرن العشرين انغمسوا في البيانات واختبروا نظرياتهم بلا كلل في معامل الحياة الواقعية في الشوارع. ففي عام 1910، فحص فرانسيس بيركينز شخصياً أكثر من 100 مخبز في نيويورك قبل أن يقترح قوانين صحة جديدة. والتقدميون الأصليون كانوا تدريجيين وتوفيقيين. وأقاموا تحالفات بتحقيق نتائج ملموسة. والبراجماتية لم تكن أكثر إلحاحاً مثلما هي الآن في السياسة الأميركية. والفقدان واسع الانتشار للثقة بالحكومة يمثل انعكاسا لنصف قرن من الوعود المبالغ فيها.
والرد على نهج ترامب ليس بديماغوجية اليسار. وإذا كان «الديمقراطيون» يأملون في إقناع وسط أميركا بأن الحقائق مهمة، فلا يمكنهم التستر بالنداءات العاطفية للأفكار التي لم يجر تمحيصها. ويجب على «الديمقراطيين» أن يطالبوا بالمزيد من الإجابات وليس بالقليل منها. ويطرحوا أسئلة مثل: هل تفيد وعود مجانية التعليم الجامعي في الولايات أسر الطبقة المتوسطة وفوق المتوسطة أكثر من الأسر المحتاجة؟ هل الضرائب التي تقترحها «وارين» على أصول الأميركيين الأثرياء من المرجح أن تجتاز الاختبار الدستوري؟ وما الاستراتيجيات التي من المرجح أن يستخدمها المليارديرات لتجنبها؟ هل يؤيد الأميركيون عدم تجريم العبور غير القانوني للحدود؟ هل يعارض الأميركيون الترحيل القانوني؟ هل يوافق الأميركيون على أن الحكومة الاتحادية يجب أن تضمن وظيفة لكل شخص؟
والأسئلة البراجماتية مثل هذه ذات صلة مهمة بالديمقراطية النيابية التي تكون فيها السياسة فن الممكن. ما لا أفهمه هو سبب تجاهل شخص يسعى لمنصب رئيس الولايات المتحدة الأسئلة عن وقائع العالم ومعارك الوعود دون تفسير كيف سيفوز بها. الحقائق لن تمتثل لشكل جديد عام 2021 لمجرد أن «الرئيس» ساندرز يدعوها لذلك أو أن «الرئيسة» وارين تتصدى لها. على الجانب الآخر، فإذا كانت أفكارهم سليمة ووعودهم صحيحة، فلا توجد طريقة أفضل لإظهار هذا من الاختبار الدقيق والتحديات الشديدة. وعلى عكس ما نسمع مراراً وتكراراً في المناظرات، فإن هذه ليست نقطة حديث لدى «الجمهوريين» بل هي إيمان أميركي.
*كاتب أميركي
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»